×

رحلة في حياة فرانز كافكا وكتاباته السوداويه

صورة بورتريه للكاتب فرانز كافكا مع تراكب نصي لعنوان المقالة "فرانز كافكا: رحلة في متاهات العبث والكابوس"، تستخدم كصورة مميزة للمقالة.

رحلة في حياة فرانز كافكا وكتاباته السوداويه

اشتهر فرانز كافكا بكتاباته التي تتسم بالسوداوية والكابوسية، حتى أن الأدب استعار اسمه ليُطلق مصطلح “الكافكاوية” على كل كتابةٍ تحمل هذه السمات المظلمة والمربكة. لم يسعَ كافكا للشهرة في حياته، بل عاش حياةً هادئةً، مُثقلةً بالهموم الشخصية والصراعات الداخلية، وكرّس وقت فراغه للكتابة التي كانت متنفسه الوحيد. ورغم أنه لم يُنهِ العديد من أعماله، وأوصى بإحراق معظمها بعد وفاته، إلا أن صديقه الوفي ماكس برود أبى إلا أن ينقذ هذا الإرث الأدبي الفريد ويقدمه للعالم.

من خلال رواياته وقصصه القصيرة، وعلى رأسها تحفته الخالدة “المسخ“، يدعونا كافكا إلى عالمٍ غريب، عالمٍ تتداخل فيه الحقيقة بالحلم، والمنطق باللامنطق. شخصياته غالباً ما تكون وحيدة، معزولة، تواجه مصائر عبثية في مواجهة أنظمة بيروقراطية ساحقة أو تحولات جسدية غامضة.

في هذه المقالة، سنبحر في عالم فرانز كافكا المعقد والمدهش. سنتعرف على حياته التي شكلت رؤيته للعالم، ونستكشف أبرز أعماله الأدبية، ونتوقف عند مجموعة من أروع اقتباساته التي لا تزال تدهشنا بعمقها وقدرتها على ملامسة أوتارنا الحساسة. إنها دعوة لاستكشاف إرث واحدٍ من أهم وأعمق الأدباء في القرن العشرين، وفهم لماذا لا يزال فرانز كافكا، بكل ما يحمله من قلق وعبث، صوتاً ضرورياً في زمننا هذا.


صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود تظهر الكاتب فرانز كافكا في فترة شبابه مرتدياً قبعة، وبجانبه كلب، ضمن مقالة عن رحلته في متاهات العبث والكابوس.

وُلد في 3 يوليو من عام 1883 م في مدينة براغ، التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية، وهي الآن عاصمة جمهورية التشيك. نشأ في كنف أسرة يهودية أشكنازية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. كان الابن البكر، وكان له شقيقان ذكور توفيا في سن مبكرة عندما كان في السادسة من عمره، مما تركه وحيداً بين ثلاث شقيقات إناث، واللواتي لقين حتفهن لاحقاً بشكل مأساوي في معسكرات الاعتقال النازية خلال الهولوكوست.

كانت علاقة كافكا بوالده، هيرمان ، معقدة ومتوترة، وهو ما انعكس بشكل كبير في كتاباته، حيث تظهر شخصية الأب السلطوي والمتسلط بشكل متكرر. هذه العلاقة الصعبة، إلى جانب شعوره بالعزلة والاغتراب داخل أسرته ومجتمعه، ساهمت في تشكيل نظرته السوداوية للعالم.

درس فرانز كافكا القانون في جامعة براغ (جامعة كارل فرديناند)، وحصل على درجة الدكتوراه في القانون عام 1906. بعد تخرجه، عمل في مجال التأمين لعدة سنوات في “معهد تأمين حوادث العمال لمملكة بوهيميا”. كان عمله هذا رتيباً ومملاً بالنسبة له، لكنه وفّر له دخلاً ثابتاً وأتاح له بعض وقت الفراغ الذي كرّسه للكتابة، التي كانت شغفه الحقيقي وملاذه من ضغوط الحياة اليومية. كان يكتب عادةً في المساء أو في ساعات الليل المتأخرة.

على الرغم من أن اللغة التشيكية كانت لغته الأم تقريباً، وكان يتحدثها بطلاقة، إلا أن فرانز كافكا اعتبر اللغة الألمانية هي لغة كتابته الأدبية، وربما كان يشعر بأنها تعبر بشكل أفضل عن عوالمه الداخلية المعقدة. كان يرى أن لغته الألمانية ليست نقية تماماً، بل ممزوجة بلكنة تشيكية، وهو ما قد يعكس أيضاً شعوره بالانتماء المزدوج أو الاغتراب الثقافي.


بدأت رحلتة الأدبية بشكل جدي في أوائل القرن العشرين. تأثر في بداياته بعدد من الكتاب، منهم الكاتب المسرحي والشاعر الألماني هاينريش فون كلايست، الذي وصف كافكا أعماله بأنها “مخيفة” وكان يعتبره أقرب إليه حتى من عائلته. هذا التأثر يظهر في بعض جوانب كتاباته، مثل التركيز على الصراع الداخلي للشخصيات والمواقف العبثية.

أول أعمال فرانز كافكا التي رأت النور كانت مجموعة من ثماني قصص قصيرة نُشرت عام 1908 في العدد الأول من المجلة الأدبية “هايبريون” تحت عنوان “تأمل” (Betrachtung). قبل ذلك، في عام 1904، كتب كافكا القصة القصيرة “وصف معركة” (Beschreibung eines Kampfes)، لكنها لم تُنشر كاملة إلا لاحقاً على أجزاء.

تُعتبر قصة “الحكم” (Das Urteil)، التي كتبها فرانز كافكا في ليلة واحدة في سبتمبر 1912 وأهداها لخطيبته آنذاك فيليس باور، بمثابة الانطلاقة الحقيقية لمسيرته الأدبية المميزة. هذه القصة، التي تتناول علاقة معقدة بين أب وابنه وتنتهي بحكم الأب على الابن بالموت غرقاً، تحمل العديد من السمات الكافكاوية التي ستصبح علامة فارقة في أعماله اللاحقة، مثل الشعور بالذنب، والسلطة الأبوية الساحقة، والمصير العبثي. نُشرت “الحكم” للمرة الأولى عام 1913.


صورة مجمعة لأغلفة عدد من أشهر مؤلفات وروايات فرانز كافكا باللغة العربية، مثل "المسخ" و"المحاكمة"، توضح إرثه الأدبي ضمن مقالة عن رحلته في العبث والكابوس.

لم ينشر فرانز كافكا سوى عدد قليل من أعماله خلال حياته. معظم ما نعرفه اليوم من إرثه الأدبي العظيم، بما في ذلك رواياته الثلاث غير المكتملة (“المحاكمة”، “القلعة”، و”أمريكا”)، نُشر بعد وفاته بفضل صديقه المقرب ماكس برود. كان كافكا قد أوصى برود بإحراق جميع مخطوطاته بعد موته، معتقداً أنها لا تستحق النشر، لكن برود، لحسن حظ الأدب العالمي، تجاهل هذه الوصية وعمل جاهداً على نشر أعمال صديقه.

من المفارقات أن كتابات فرانز كافكا، التي لم تحظَ بتقدير واسع في حياته، تعرضت لاحقاً للحرق على يد النظام النازي في ألمانيا، ثم واجهت مواقف متناقضة في الدول الشيوعية، حيث مُنعت في البداية ثم رُحّب بها لاحقاً.

  • “تأمل” (Betrachtung) (نُشرت 1912، لكن بعض القصص منها نُشرت سابقاً): مجموعة قصص قصيرة.
  • “الحكم” (Das Urteil) (كُتبت 1912، نُشرت 1913): قصة قصيرة.
  • “المسخ” أو “التحول” (Die Verwandlung) (نُشرت 1915): رواية قصيرة (نوفيلا)، وهي أشهر أعماله على الإطلاق، وتحكي قصة غريغور سامسا الذي يستيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة عملاقة.
  • “في مستعمرة العقاب” (In der Strafkolonie) (نُشرت 1919): قصة قصيرة.
  • “طبيب ريفي” (Ein Landarzt) (نُشرت 1919): مجموعة قصص قصيرة.
  • “فنان جوع” (Ein Hungerkünstler) (نُشرت 1924): مجموعة قصص قصيرة.
  • “جوزفينه المغنية، أو شعب الفئران” (Josephine, die Sängerin oder Das Volk der Mäuse) (نُشرت 1924): آخر قصة قام بنشرها.
  • “المحاكمة” (Der Process) (نُشرت 1925): رواية غير مكتملة، تحكي قصة جوزيف ك. الذي يُقبض عليه ويُحاكم دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه.
  • “القلعة” (Das Schloss) (نُشرت 1926): رواية غير مكتملة، تتناول سعي مسّاح الأراضي ك. للوصول إلى قلعة غامضة والحصول على اعتراف من سلطاتها.
  • “أمريكا” (Amerika) أو “المفقود” (Der Verschollene) (نُشرت 1927): رواية غير مكتملة، تتبع مغامرات الشاب كارل روسمان في أمريكا.
  • “سور الصين العظيم” (Beim Bau der Chinesischen Mauer) (نُشرت 1931): مجموعة نصوص أدبية وقصص قصيرة.
  • “رسائل إلى ميلينا” (Briefe an Milena): مجموعة رسائل مؤثرة كتبها إلى الصحفية والمترجمة التشيكية ميلينا يسينسكا.
  • “رسائل إلى والدي” (Brief an den Vater): رسالة طويلة لم تُرسل قط، يشرح فيها علاقته المعقدة والمؤلمة بوالده.

تتميز اقتباساته بعمقها وقدرتها على التعبير عن القلق الوجودي، والشعور بالعزلة، والبحث عن المعنى في عالم يبدو عبثياً. إليك مجموعة من أبرزها:

أنا لستُ حُرًا، ولهذا أنا ضائع.

لستُ إلا بداية بلا نهاية.

أنا قفص يبحث عن طائر.

أفضل ما في الأمر أن أكون وحيدًا تمامًا.

ليس من الضروري أن تخرج من غرفتك. ابقَ جالسًا على طاولتك واستمع. لا تستمع حتى، انتظر فحسب. لا تنتظر حتى، كن هادئًا تمامًا ووحيدًا. سيقدم العالم نفسه لك لكي تُقشّره، لا يمكنه فعل غير ذلك، سيتلوى بنشوة تحت قدميك.

في صراعك مع العالم، ساند العالم.

الكتاب يجب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا.

أؤمن بأننا يجب ألا نقرأ إلا الكتب التي تجرحنا وتطعننا. إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بضربة على جمجمتنا، فلماذا نقرأه إذن؟

الكتابة صلاة.

كل ما هو ليس أدبًا هو ملل بالنسبة لي.

معنى الحياة هو أنها تتوقف.

هناك أمل لا نهائي، ولكن ليس لنا.

الشباب سعيد لأنه يمتلك القدرة على رؤية الجمال. أي شخص يحتفظ بالقدرة على رؤية الجمال لا يشيخ أبدًا.

إنني متعب، لا أستطيع التفكير في أي شيء، ولا أريد سوى أن أريح وجهي في حجرك، وأن أشعر بيدك فوق رأسي، وأن أبقى هكذا إلى الأبد.

اللحظة الحاسمة في تطور الإنسان تأتي باستمرار.

من المستحيل أن تعيش دون أن تثق بشيء.

كل ما تحبه، ستفقده على الأرجح، ولكن في النهاية، سيعود الحب بشكل مختلف.

لستُ أفكر فيكِ إلا عندما أتوقف عن التفكير.

أحتاج إلى العزلة لأكتب، ليس لكي أكون ناسكًا – فهذا ليس ضروريًا – ولكن لكي أموت.

إنتاجية المرء هي مجرد نتيجة ثانوية لعدم إنتاجيته.

لا تيأس، حتى من حقيقة أنك لا تيأس.

السلاسل التي تقيد البشرية مصنوعة من أوراق المكاتب.

كل ثورة تتبخر وتترك وراءها فقط وحل بيروقراطية جديدة.

أنا نائم، وفي نفس الوقت مستيقظ، أنا أعيش في حلم.


لم تكن صحة فرانز كافكا جيدة لسنوات عديدة، حتى قبل تشخيص إصابته بالسل. كان يعاني من التوتر المستمر، والقلق، والصداع النصفي، والأرق، والاكتئاب. هذه المعاناة الجسدية والنفسية انعكست بلا شك في سوداوية كتاباته.

في مارس 1924، عاد فرانز كافكا إلى براغ من برلين لتلقي العلاج في مصحة الدكتور هوفمان في كيرلينغ، بالقرب من فيينا. وهناك، تدهورت حالته بسرعة. كان مرض السل قد أصاب حنجرته، مما جعل عملية البلع والأكل مؤلمة للغاية. وبسبب عدم توفر طرق التغذية الوريدية المتقدمة في ذلك الوقت، كان الجوع أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى وفاته.

توفي في 3 يونيو عام 1924، عن عمر يناهز الأربعين عاماً. نُقل جثمانه إلى براغ ودُفن هناك في 11 يونيو 1924 في المقبرة اليهودية الجديدة.

على الرغم من أنه لم يحقق شهرة واسعة خلال حياته، إلا أن أعماله أصبحت بعد وفاته من العلامات البارزة في الأدب العالمي. الفضل في ذلك يعود إلى ماكس برود، الذي، كما ذكرنا، خالف وصية صديقة ونشر أعماله، مدركاً قيمتها الأدبية والفكرية الفريدة.

اليوم، يُعتبر فرانز كافكا واحداً من أهم الكتاب في القرن العشرين. أعماله تُدرس في الجامعات، وتُترجم إلى عشرات اللغات، وتُلهم أجيالاً من الكتاب والفنانين والمفكرين. مصطلح “الكافكاوية” أصبح جزءاً من المعجم الأدبي العالمي، يصف المواقف العبثية، والبيروقراطية الساحقة، والشعور بالاغتراب والعجز الذي يميز عوالمه وشخصياته.


صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود للكاتب فرانز كافكا في شبابه، بنظرة مباشرة وعينين واسعتين، ضمن مقالة عن رحلته في متاهات العبث والكابوس.

إن إرث فرانز كافكا يتجاوز مجرد كونه كاتباً موهوباً. إنه صوتٌ فريدٌ استطاع أن يعبر عن قلق الإنسان المعاصر، وعن شعوره بالضياع في عالمٍ يزداد تعقيداً وغموضاً. كتاباته، بكل ما فيها من كابوسية وعبث، لا تزال تلامسنا بعمق لأنها تتحدث عن تجارب إنسانية عالمية: البحث عن المعنى، والشعور بالذنب، والخوف من السلطة المجهولة، والرغبة في الانتماء والحرية.

إن اقتباساته ليست مجرد تأملات سوداوية، بل هي أيضاً دعوةٌ للتفكير النقدي، وللتساؤل عن الأنظمة التي تحكم حياتنا، وعن طبيعة وجودنا. في عالمٍ قد يبدو أحياناً “كافكاوياً” في بيروقراطيته ولا معقوليته، تظل كلماته بمثابة مرآةٍ نرى فيها انعكاساً لمخاوفنا وتحدياتنا.

ورغم كل السوداوية، هناك بصيص من الجمال الإنساني في كتابات كافكا، وفي قدرة شخصياته على الصمود، أو على الأقل على الوعي بمأساتهم. إن قراءتة هي تجربةٌ لا تُنسى، تجربةٌ قد تكون مربكة ومقلقة، لكنها بالتأكيد تتركنا أكثر وعياً بأنفسنا وبالعالم من حولنا. إنه الكاتب الذي، حتى بعد قرن من وفاته، لا يزال “يقرأنا” ويفهمنا بعمق مذهل.

ما هو الاقتباس الذي أثر فيك أكثر من كلمات فرانز كافكا؟ شاركنا رأيك وتأملاتك في التعليقات.

إرسال التعليق

You May Have Missed