الطعام في الأدب: ملاذ الروح وشفاء الجروح
يُقال إن الفن يولد من رحم المعاناة، وهذا ما يتجلى بوضوح في عالم الأدب، حيث تتحول التجارب الإنسانية القاسية إلى لوحات فنية خالدة. لكن ماذا لو كان هذا الفن يتجسد في أبسط أشكال الحياة وأكثرها ارتباطًا بوجودنا؟ ماذا لو أصبح الطعام، بحد ذاته، بوابتنا نحو التعبير عن أعمق مشاعرنا وأشد معاناتنا؟ هذا هو جوهر ما سنستكشفه في هذه المقالة، كيف يصبح الطعام في الأدب ليس مجرد وسيلة للبقاء، بل لغة رمزية عميقة، ملاذًا، ووسيلة شفاء للبطلات اللواتي عانين من قسوة الحياة.
تؤكد الروايات العالمية مرارًا وتكرارًا أن الفن ينشأ عادةً من صميم المعاناة البشرية، من تلك اللحظات التي تؤكد على محدوديتنا وتجعلنا ندرك ضعفنا أمام قوة الظروف. إنه الملاذ الذي نلجأ إليه عندما يشتد علينا ظلم الحياة، أو عندما تهزمنا قسوة الواقع.
وهذا بالضبط ما حدث مع البطلات الثلاث اللواتي سنستكشف قصصهن في هذه المقالة: تيتا من رواية “كالماء للشوكولاتة”، وإليزابيث من رواية “طعام، صلاة، حب”، وإيزابيل من رواية “أفروديت”. كل واحدة منهن عاشت تجارب قاسية وخسارات فادحة تركت في أرواحهن إحساسًا عميقًا بالفقد. وفي سعيهن لتعويض هذا الفقد الذي اعترى أرواحهن، لجأن إلى الطعام في الأدب كنوع من أنواع الفن، تمكنّ من سبر أغواره والتعبير عن ذواتهن من خلاله. نسجت كل من تيتا، إليزابيث، وإيزابيل حكايتها الخاصة مع المطبخ، ليتحول هذا الشغف بفن الطعام إلى وسيلة دفاعية قوية ضد الظروف المحيطة التي مررن بها جميعًا.
“ملذات طوكيو” لدوريان سوكيغاوا: فن الفاصوليا الحلوة يداوي الجروح

تُعد رواية “ملذات طوكيو”، والتي تحمل عنوانها الأصلي “فطائر الفاصوليا الحلوة” أو “Sweet Bean Paste”، تحفة أدبية نقلتها المخرجة اليابانية ناعومي كاواسي إلى الشاشة الكبيرة في فيلم “Sweet Bean” عام 2015. هذه الرواية تأخذنا في رحلة عميقة إلى عالم الطعام في الأدب، حيث يتجاوز مجرد كونه لقمة عيش ليصبح وسيلة للاتصال الإنساني والشفاء الروحي.
تدور أحداث الرواية حول “توكي”، عجوز سبعينية، تتقاطع حياتها مع “سينتارو” في عمل مشترك: صناعة فطائر “الدوراياكي” اليابانية الشهية. كلاهما كان يعاني من الوحدة والوحشة قبل أن تتقدم توكي للعمل في متجره، في تجربة غيرت حياتهما وقلبتها رأسًا على عقب. كانت “توكي” قد شُخِّصت بمرض الجذام في عمر الرابعة عشرة، وأُجبرت على العيش في مصح للحجر الصحي. في ذلك الوقت، ساد معتقد خاطئ عن المرض، إذ اعتبروه تكفيرًا عن ذنوب ارتكبتها الروح في حياة سابقة. وحتى بعد رفع الحظر والسماح لها بمغادرة المصح، ظلت تعاني من العزلة المجتمعية بسبب آثار المرض على أصابعها.
اقرأ أيضا: عقول مدبرة وخيوط خفية: رحلة في أبرز كتب نظريات المؤامرة والسيطرة على العالم
تقودها المصادفة إلى متجر الفطائر الذي يعمل به “سينتارو”، وفي المطبخ، تبدأ “توكي” في إعداد حشوة الفاصوليا للفطائر بإتقان وحب غير عادي. هنا، تتغير حياتها وحياة “سينتارو” الذي يتعرف على العالم بطريقة مختلفة تمامًا. لم تكن “توكي” مجرد طاهية، بل كانت حكيمة تعلم “سينتارو” كيف يستمع إلى المكونات، كيف يشعر بروح الفاصوليا نفسها.
كانت تقول له: “حينما كنت أعد حشوة الفاصوليا، كنت تسألني غالبًا عما كنت أفعله، أليس كذلك؟ كنت تسألني إن كنت أسمع شيئًا وأنا أقرب وجهي كثيرًا من فاصوليا الأزوكي. ربما لم أكن أعرف ما الذي أقوله لك، سوى أن أقول إنني كنت في حالة إصغاء… يتعلق الأمر بحُسن مراقبة ملامح فاصوليا الأزوكي، بالانفتاح على ما لديها لتقوله لنا. إنه نوع من تخيل أيام المطر وأيام الطقس الجميل التي شهدتها، على سبيل المثال”.
هذه الرؤية العميقة لالطعام في الأدب تُظهر كيف يمكن للطعام أن يكون وسيلة للتأمل والاتصال بالماضي والطبيعة، وليس مجرد عملية طهي. إنها قصة عن التعافي، عن العثور على الجمال في أبسط الأشياء، وكيف يمكن لحشوة فاصوليا حلوة أن تفتح آفاقًا جديدة في حياة شخصين وحيدين.
“تحت شمس توسكانا” لفرانسيس مايز: رحلة الطهي والروح في قلب إيطاليا

في كتابها “تحت شمس توسكانا”، تقدم الكاتبة فرانسيس مايز مذكرات آسرة تدور حول قرارها الجريء بشراء بيت قديم مهجور في ريف كورتونا بمنطقة توسكانا الإيطالية، والانتقال للحياة في هذا الريف الهادئ لتغيير نمط حياتها المعتاد. هذا البيت القديم، الذي يحمل اسم “براماسول” ويعني “الشوق إلى الشمس”، ليس مجرد مكان، بل هو نقطة الانطلاق في رحلة روحية وثقافية عميقة تتجسد من خلال الطعام في الأدب وجمال الحياة الإيطالية.
تستعرض الكاتبة في مذكراتها تفاصيل تجديد البيت وإعادة الحياة إلى جنباته، بدءًا من الإجراءات القانونية المعقدة لشرائه، وما صاحب ذلك من شكوك حول جدوى إنفاق مدخراتها على مبنى خرب مهجور. كما تسرد مغامراتها الممتعة مع العمال الإيطاليين، وتفاصيل أعمال الترميم والبناء المضنية، وإعادة الحياة إلى الحديقة المحيطة بالبيت، حيث أشجار الزيتون والعنب والخزامى تزهر من جديد.
ولم تقتصر رحلة فرانسيس مايز على ترميم البيت فحسب، بل قامت هي وشريكها برحلات موازية لاستكشاف المناطق المجاورة، حيث استمتعا بتناول الأطعمة المحلية الأصيلة والتعرف عليها. تعرض الكاتبة في كتابها الأطباق الشهية التي جربتها، ومختلف المعجنات وأنواع الجبن المحلية، مقدمةً للقارئ لمحة عن غنى المطبخ التوسكاني. الأهم من ذلك، تستعرض مايز في الكتاب مجموعة رائعة من وصفات الطعام في الأدب التي يرتبط كل منها بفصل من فصول العام. هذه الوصفات المكتوبة بدقة تتيح للقارئ الاستمتاع بمجموعة من الأطباق الشهية أثناء قراءته للكتاب، مما يخلق تجربة حسية فريدة.
اقرأ أيضا: أبرز مؤلفات ألبير كامو ومجموعة مميزة من اقتباساته
لقد حقق هذا الكتاب مبيعات مرتفعة وصُنِّف ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعًا وفقًا لـ”نيويورك تايمز”، واقتُبس في فيلم سينمائي عام 2003، من بطولة ديان لين وإخراج أودري ويلز. إن “تحت شمس توسكانا” ليست مجرد مذكرات عن تجديد منزل، بل هي احتفال بالحياة، والطعام، والثقافة، وكيف يمكن لهذه العناصر أن تساهم في شفاء الروح والبحث عن السعادة. إنه دليل آخر على الدور المحوري للطعام في الأدب كجسر يربط بين الذات والعالم المحيط بها.
“طعام، صلاة، حب”: رحلة البحث عن الذات وتجليات الطعام

تُعد رواية “طعام، صلاة، حب” للكاتبة إليزابيث جيلبرت سيرة ذاتية مؤثرة تعكس رحلة البحث عن الذات. قبل أن تشرع الكاتبة في هذه الرحلة الروحية، كانت قد تعرضت لسلسلة من الخسارات المدمرة؛ بدءًا من زواج فاشل وطلاق قاسٍ، مرورًا بقصة حب قصيرة الأمد انتهت بألم عميق. في محاولة منها لتعويض هذا الانكسار الداخلي، اتخذت إليزابيث قرارًا مصيريًا بالبدء في رحلة روحية، وجهتها الأولى كانت إيطاليا، بحثًا عن المتعة الخالصة المتجسدة في الطعام في الأدب.
خلال الشهور الأربعة التي قضتها في إيطاليا، تفرغت الكاتبة تمامًا لاستكشاف فن الطهي، وتعلم اللغة الإيطالية. لقد اكتشفت أن الشعب الإيطالي يتمتع بطبيعة خاصة؛ فهم يعرفون كيف يستمتعون بحياتهم بصدق، على عكس الأمريكيين الذين غالبًا ما يضعون العمل في المقام الأول. هذا التناقض بين ثقافتين، إحداهما تركز على العمل والأخرى على الاستمتاع باللحظة، كان أحد الأسباب التي دفعت إليزابيث لاختيار إيطاليا كوجهة لها.
لقد علمت إيطاليا إليزابيث درسًا قيمًا: فن صنع شيء من لا شيء. هذه المعجزة التي تحول المكونات البسيطة إلى وليمة شهية، أو تحول اجتماع عدد قليل من الأصدقاء إلى مهرجان من الفرح. لقد أدركت أنه لا يجب أن تكون موهوبًا أو غنيًا لتفعل ذلك، بل يكفي أن تملك الرغبة الصادقة.
يُقدر الإيطاليون الطعام في الأدب والحياة تقديرًا عظيمًا؛ فهم يسمون بعض محطات القطار بأسماء أشهر الأطعمة والمشروبات، ويحتفلون بانتصاراتهم أو يتحملون هزائمهم باللجوء إلى متعة المائدة. إنهم يحفظون أماكن أفضل المطاعم في كل بلدة أو مدينة، بل ويستخدمون الطعام في حديثهم الدارج وأمثلتهم الشعبية. “قلها كما تأكلها” هو الشعار الذي تعلمته إليزابيث في إيطاليا، وهي جملة إيطالية عامية تعني أن تجعل كلماتك بسيطة ومباشرة مثل الطعام الروماني. لا داعي لتضخيم الأمور، بل “اطرحها على الطاولة وحسب”، فالحياة أبسط وأقل تعقيدًا لو أننا تعاملنا معها ببساطة كقطعة بيتزا.
اقرأ أيضا: كتاب الأب الغني والأب الفقير: دروس في الثراء والاستقلال المالي (ملخص واقتباسات)
ورغم أن إليزابيث ازداد وزنها في إيطاليا، إلا أنها عندما نظرت إلى نفسها في المرآة، وجدت وجهًا لامعًا وبشرة صافية، وجهًا سعيدًا ونابضًا بالصحة. تساءلت إليزابيث: هل من الخطأ أن يقوم المرء بما يحب لفترة من الزمن؟ أن يكون جل ما يفكر فيه هو وجبته التالية الشهية؟ ألا يفعل شيئًا سوى الاستلقاء تحت الشمس الدافئة أو تناول المثلجات بجوار النافورة القابعة في الميدان؟
تدرك الكاتبة أن المرء لا يمكن أن يحيا تلك الحياة إلى الأبد، ولكنها ترى أن “تكريس النفس لإنتاج الجمال والاستمتاع به، من شأنه أن يكون عملًا جديًّا، وهو ليس وسيلة للهرب من الواقع”. فتقدير اللذة يصبح مرساة لإنسانية المرء. وفي نهاية المطاف، تجد إليزابيث جزءًا من نفسها وتسترد قدرًا من سلامتها النفسية في إيطاليا، وذلك بفضل الاستمتاع بفن الطعام في الأدب.
“أينما ذهبت، اذهب بقلبك كله.” – المهاتما غاندي
“أفروديت”: الجمال، الحب، وروح الطعام

بعد وفاة ابنتها “باولا”، قضت الكاتبة إيزابيل ألليندي ثلاث سنوات محاولة التخلص من إحساس الحزن العميق الذي جثم على صدرها، ولكن دون جدوى. أحست إيزابيل، حسب وصفها، بأن العالم خلال تلك الفترة قد تحول إلى اللون الرمادي، وفقد كل ألوانه فجأة. وبعد الكثير من المحاولات والوقت، بدأت أحلام حول الطعام في الأدب تنتاب الكاتبة.
حينها فقط، وحسب روايتها، بدأت ضربات الألوان الأولى تظهر في الأفق. “أفروديت” كان العمل الأول الذي كتبته بعد فترة الحداد، وهو عمل أدبي يجمع بين فن الحب وفن الطعام وفن الرواية. ترى الكاتبة أن الحب والطعام في الأدب هما الفنّان اللذان كانا محط اهتمام الإنسان وإبداعه وبحثه الدائم عن الجديد من خلالهما.
في رواية “أفروديت”، تحاول الكاتبة تشكيل العالم من جديد، وكأنه عجينة طيعة لفطيرة شهية. جهزت إيزابيل المكونات بروية شديدة، وتجسدت تلك المكونات في استطلاع ثقافات الطعام المتنوعة: المصرية، الهندية، اليابانية، الرومانية، والثقافة العربية الإسلامية القديمة. كانت تحاول الوصول إلى اكتشاف العلاقة السحرية بين الطعام والحب.
خلال رحلتها، تكتشف إيزابيل أن النهم هو طريق مستقيم نحو الشبق، وإذا ما جرى التقدم فيه أكثر، قاد إلى ضياع الروح. ولهذا السبب، فإن الرهبان والمتصوفين ورجال الدين من مختلف الثقافات الذين يتطلعون إلى الكمال الديني يأكلون بشكل سيء؛ فهذا من وجهة نظرهم يحمي أرواحهم من الذهاب بعيدًا، ويجعلهم يسيطرون على شهواتهم.
تؤكد إيزابيل أن هدفها الأول من كتابة هذا العمل، بالإضافة إلى محاولتها للتعافي، هو إعادة تأهيل القارئ لاستخدام جميع حواسه. وذلك بغية تحقيق تناغم بين اللمس، والرائحة، والذوق، والبصر، بهدف الوصول إلى قمة العاطفة بين المحبين. هذا التناغم يمكن أن يتحقق بتحضير طعامهما المشترك معًا لتحضير وجبات أفروديتية. فالرائحة التي تنبعث من التوابل وشكل الطعام وألوانه تؤكد أن لهذا الفن روحه الخاصة؛ فأثناء إعداده، تنفتح نافذة على الذاكرة وتقودنا في رحلة عبر الزمن. وعلى الرغم من تأكيد خبراء الطعام على أن حاسة التذوق تبدأ في اللسان وسقف الفم، فإن الكاتبة تؤكد أن لذة الطعام في الأدب جزء منها ينبعث من الذكريات، والجزء الآخر ينبعث من الحواس الأخرى.
اقرأ أيضا: رواية “كلمة الله” لأيمن العتوم: صراع التعصب وحتمية الحوار (ملخص واقتباسات)
لم تكتفِ إيزابيل في صفحات روايتها بتقديم الوصفات المطبخية التي تهدف لإشعال فتيل الرغبة بين المحبين، بل تطرقت كذلك إلى تناول تعويذة العطور. ذكرت أنه من الصعب حسم أمر متى يبدأ التذوق وأين ينتهي الشم؛ فإغواء القهوة لا يصدر عن الطعم، وإنما من رائحة بخارها الغامض والكثيف. الشم هو أقدم حواسنا، ولديه قدرة جبارة على اختراق الذاكرة بكل إصرار وعناد. كليوباترا كانت بارعة في معرفة سحر العطور، واستخدمت تلك المعرفة حتى حدودها القصوى، فنبأ وصول سفينتها كان يصل قبلها بساعات، إذ يخترق عطرها الموانئ محملًا بعبق ورد الشام، حيث كانت تنثره الملكة على أشرعة سفينتها.
ووفقًا للأساطير اليونانية القديمة، أفروديت هي إلهة الحب والجمال والشهوة، والأفروديتي هو أي نشاط يثير الرغبة بالحب. يمكن أن ينجم هذا النشاط عن الرغبة الحسية وحدها، مما قد يقود إلى الخلاعة، أو يمكن أن يرتكز على الخيال ليعزز المتعة، ولكنها متعة روحية أكثر منها جسدية. الأفروديتيات هي الجسر بين الشراهة والشبق. على سبيل المثال، أي طعام في الأدب أو الواقع يكون لذيذًا وصحيًا وطازجًا وجذابًا للنظر وتفوح منه رائحة التوابل المكسيكية، سيكون طعامًا أفروديتيًا.
“لا يمكنك أن تمنح السلام لشخص لا يمتلكه لنفسه.” – المهاتما غاندي
“كالماء للشوكولاتة”: الطعام كوسيلة للتواصل والحب

في المكسيك، تحرم التقاليد المجتمعية الزواج على تيتا، الابنة الصغرى لعائلة دي لا جارثا. لكن تيتا كانت قد أُغرمت بالفعل ببيدرو، إلا أن والدتها تقف بكل ما أوتيت من قوة ضد هذا الزواج. في النهاية، يقرر بيدرو الزواج من روساورا، أخت تيتا، وذلك لكي يظل بالقرب منها.
في محاولة من تيتا لتخطي مرارتها نتيجة هذا الزواج القسري، قررت التواصل مع حبيبها بيدرو من خلال الطعام في الأدب. فبدون النطق بكلمة واحدة، كانت الروائح والتوابل المنبعثة من الطعام الذي تعده تيتا كفيلة بتأجيج مشاعر الحب كل مرة في قلب بيدرو. بعد سنة من زواج بيدرو من أختها، تختار تيتا طاهية رسمية للمزرعة، وتتلقى حينها أول باقة ورد من بيدرو بسبب النجاح الذي حققته في الطهي. هنا، تتأكد تيتا عبر نظرات بيدرو من حبه لها. ولكن، تطلب منها أمها التخلص من باقة الورد؛ ولأن تيتا لم ترغب بذلك، قررت تحضير وجبة طيور السمان مع بتلات الورد التي أهداها لها بيدرو. بهذه الطريقة، لن تموت تلك الورود أبدًا وسيظل تأثيرها قويًّا فقط بسبب دمجها بالطعام في الأدب.
نتجت عن الورود وطيور السمان وجبة رائعة، لدرجة أن بيدرو لم يستطع أن يتمالك نفسه، وهتف وهو يغمض عينيه بشبق حقيقي: “إن هذا كمتعة آلهة!”. أما ما حدث لخيرتروديس، أخت تيتا الثالثة، فهو الغريب حقًّا. خيرتروديس كانت قد أغرمت في ذلك الصباح بخوان، قائد كتيبة الثوار في القرية. وبعد تناولها لطيور السمان، أحست بالتعب؛ إذ “أخذت تتعرق بغزارة من كل أنحاء جسدها. وكانت قطرات العرق المتصببة منها وردية اللون ولها رائحة الورد اللطيفة والنفاذة”.
ذهبت خيرتروديس للاستحمام، ولكن حرارة جسدها أخذت في الارتفاع، حتى إن أخشاب الغرفة نفسها بدأت في الاحتراق. خرجت خيرتروديس من الغرفة وهي تركض بين الحقول دون أن تستطيع التوقف. في هذه الأثناء، انطلقت رائحة جسدها المشبع ببتلات الورد بعيدًا جدًّا، حيث كان الثوار وقوات الحكومة يخوضون معركة شرسة. وفجأة، اندفع خوان بحصانه تجاه الرائحة تاركًا خلفه قواته وهي تواجه العدو، حيث يلتقي بخيرتروديس، ويمضي بها بعيدًا. كل هذا بسبب وجبة طعام في الأدب أُعدت بواسطة محبة عاشقة.
اقرأ أيضا: كنوز بابل الخالدة: 40 قاعدة ذهبية من كتاب “أغنى رجل في بابل” لتحقيق الثراء
كذلك، عند تناول المدعوين وجبة الموليه “الديك الرومي بالزيت والسمسم” في حفلة تعميد ابن بيدرو وروساروا، دخلوا جميعًا في حالة انشراح جعلت ردود أفعالهم سعيدة بطريقة نادرة الحدوث. كانوا يضحكون بصوت مرتفع كما لم يفعلوا من قبل قط، وسيمر وقت طويل قبل أن يتكرر فعلهم ذلك. وعند سؤال تيتا عن سر هذه الوصفة الرائعة، أجابت: “إن السر هو أنها قد أعدت الموليه بحب عميق”.
تجسد الأم إيلينا في رواية “كالماء للشوكولاتة” رمزًا للجانب المحدود والقاسي من العالم، وتقابلها تيتا بالجانب الحر الذي تشكله أرواحنا. تمثل الأم كل ما هو مستبد ومتسلط وظالم وقاس، إذ حرمت ابنتها تيتا من حقها في الحب والزواج، ولم تكتفِ بذلك فقط، بل أجبرت بيدرو على الهجرة من المكسيك إلى الولايات المتحدة لتبعده عن تيتا. لكنها بفعلتها تلك، فرقت بين تيتا وبين روبرتو الطفل الذي أحبته وكانت ترعاه كابن لها. قابلت تيتا ذلك ببراعتها في فن الطهي وبحثت عن عناصر الجمال الموجودة حولها؛ عناصر ذلك الجمال تجسدت في الطعام في الأدب وفي الطفل روبرتو.
يموت الطفل روبرتو في الولايات المتحدة بسبب قلة الرعاية؛ إذ كانت تيتا هي من تتولى رعايته. تصاب تيتا بصدمة كبيرة وتدخل في نوبة اكتئاب عميقة، ولأول مرة تثور في وجه أمها لأنها المسؤولة عن ذلك. تستدعي الأم إيلينا الدكتور براون ليأخذ تيتا إلى مستشفى المجانين، ولكنه عوضًا عن ذلك؛ ولأنه وقع في حبها، يأخذها إلى بيته. ومع الوقت وبعد مدة، تستطيع تيتا أن تسترد جزءًا من صحتها النفسية، وكانت بداية خروجها من غرفتها هي رائحة فاصوليا في بداية غليانها.
يجيد الدكتور براون صنع عجينة الكبريت، ويحكي لتيتا -ولنا- اعتقاد جدته بأن بداخل كل منا مادة كالفسفور تعادل تلك الموجودة في علبة ثقاب، مادة تمد أرواحنا بالطاقة، ولكن الفسفور بداخلنا مادة خاملة لا تشتعل إلا بعوامل خارجية، كأنفاس شخص محبوب، موسيقى، مداعبة،، أو كلمة أو وجبة طعام في الأدب.
في المطعم المكسيكي، تُصنع الشوكولاتة بالماء عوضًا عن الحليب. يسخن الماء حتى الغليان ثم يضاف إليه الشوكولاتة لتذوب ببطء وفي النهاية تأخذ مذاقها الرائع. في المقابل، تذوب تيتا – مثل الشوكولاتة- في وسط ساخن مليء بالألم، لتصل في النهاية إلى مرادها.
خاتمة الطعام في الأدب:
مع كل وجبة أعدتها بطلات رواياتنا، وكل نكهة تذوقنها، وكل رائحة انبعثت من مطابخهن، تثبت هذه القصص أن الطعام في الأدب يتجاوز كونه مجرد حاجة جسدية ليصبح فنًا بحد ذاته، ووسيلة للتعبير عن المشاعر العميقة، بل وحتى أداة للشفاء من جراح الروح. لقد أظهرت لنا هذه الروايات كيف يمكن للمعاناة أن تتحول إلى إبداع، وكيف يمكن للمطبخ أن يكون مسرحًا لأعظم قصص الحب والفقد والبحث عن الذات. إنها دعوة للتأمل في العلاقة بين أطباقنا وحياتنا، بين ما نأكل وما نشعر به، لنكتشف أن هناك جمالًا عميقًا وقصصًا لا حصر لها تنتظر أن تُروى في كل زاوية من مطابخنا، لتثري ليس فقط أجسادنا، بل أرواحنا أيضًا. فالفن، كما الطعام، يبدأ ببساطة، وينتهي بتجربة لا تُنسى.
بعد أن استكشفنا معًا كيف يتحول الطعام في الأدب إلى لغة للحب، الشفاء، والتعبير عن الذات، نود أن نسمع رأيكم: أي رواية قرأتموها جعلتكم تشعرون برائحة التوابل أو طعم الشوكولاتة، وكيف أثر الطعام فيها على تجربتكم للقراءة؟ شاركونا قصصكم وتوصياتكم في التعليقات!
إرسال التعليق